إلياس فرحات: (1893-1976)
ولد الشاعر اللبناني المهجري الكبير إلياس فرحات في نوفمبر سنة 1893 اشتهر منذ صغره بقول الزّجل المعروف بالقرادي، وامتهن في أوّل أمره صناعة تقشيش الكراسي، أي نسج مقاعدها، ثم تردّد واشتغل تارةً في معمل نجارةٍ عربيّةٍ وطورًا في معمل نجارةٍ افرنجيّةٍ. واتّسعت دائرة شهرته كزجّال، فكان شباب القرية يأخذونه إلى مجالس الطّرب والأفراح لينازل فحول القوّالين.
دخل مستخدماً ينضد الحروف في جريدة “الوطن”، لصاحبها الشّاعر شبلي ملاط؛ تعلّم صفّ الحروف، ثم اشتغل في جريدة “الحقيقة”، لصاحبها الشّيخ أحمد عبّاس الأزهري، واستفاد من معاشرة الأدباء ومطالعة الكتب والمجلاّت.
في سنة 1909، زار دمشق ولبث فيها نصف سنةٍ، قضى معظمها في الفراش لورمٍ ألمّ برجليه فتعذّر عليه المشي، ثم رجع إلى كفرشيما.
وفي 27 تشرين الثاني سنة 1910، وصل إلى البرازيل وعاش مع أخويه وديع وأسعد، وكلّه آمالٍ بأن يبقى مدّة سنتين أو ثلاث، ثم يعود بالنّقود ويتحقّق حلمه بالزّواج ممّن أحبّ. ولكن ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه، فقد تزوّجت حبيبته وصارت أماً، وما زالت ذكريات حبّه تجول بخاطره.
وكان في جعبته يوم هِجْرَتِهِ خصلة شَعْر من فتاة أحبها، لكنها زُفَّتْ إلى غيره بسلطان الأهل والمال. وقال فيها:
خصلة الشعر التي أهديتنيها عندما البين دعاني بالنفير
لَم أزل أتلو سطور الحب فيها وسأتلوها إلى اليوم الأخير
إستُخدِمَ فرحات في محلاّتٍ تجاريّةٍ، ثم تعاطى مع أخويه نجيب ورشيد صُنع الصّناديق الخشبيّة، ثم رحل إلى بلدة “ديقينو بولس” ومنها أرسل أوّل قصيدةٍ للنّشر في جريدة “أبو الهول” التي كانت تصدر في سان باولو، وكان قد أخذ ينظم الشّعر الفصيح. نظم قصيدةً في وصف حفلات المرافع، فنالت الإستحسان مع تقريظٍ زَعم فيه كاتبه أنّه، وإن كان الشّاعر فرحات غير متعلّمٍ، إلاّ أنّ شعره قد بزّ المُتعلّمين.
يقول وهو يناجي (السعادة):
سعادة نفسي متى نلتقي؟ لعلّك للآن لم تخلقي
الى كم اسائل عنك وأبحث في مغرب الشمس والمشرق
قطعت البحار، وجبت القفار وحاولت جوب الفضاء النقي
وعدت الحزين بقرب اللقاء فطال الزمان ولم نلتقي
خلقت شقياً، وعشت شقياً وأحسب اني أموت شقي
ضاقت عليه ولاية ميناس فرحل إلى سان باولو وبعث به صديقه شكري الخوري لجباية بدلات اشتراكات الجريدة. ثم فارقه لإختلاف النّزعات والعقيدة فيما بينهما، لأنّه ما كادت فرنسا تظهر على مسرح السّياسة السّورية حتى استحال احتلالياً فرنسياً من الطّراز الأوّل.
لم يكن فرحات ينظم الشّعر إلاّ عندما يَرِدُ عليه من الخواطر السّانحة، وينظم ماشياً في السّوق أو مسافراً في الحافلة أو في القطار أو نائماً.
وفي سنة 1918 حلَّت به النكبة الكبرى باحتراق طرف ثوبه واتفق أصحابه على شراء بدلة له بالأجل ليستطيع الانتقال بين مختلف ولايات البرازيل، باعتباره ممثلاً لمجلة الدليل في العاصمة. ولكن لازمه سوء حظه فاحترق كُمّ ردائه الجديد، الذي أحرقته شرارة من مدخنة القطار قبل المحطة الأولى وبعث لأصحابه أبيات شعر يقول فيها:
كأنّ الهواء مع النار لَمَّا رآني لبست جديدي، اتفق
فجاء بها من دخان القطار ونثرها فوقـه فاحتـرق
فقلت أعاتب ربي مشيراً إلى الحرق وهو كباب النفق
إلهي، تضن عليّ بثوبي وتكسو الغصون ثياب الورق
ولو كنت غصناً لجددته متى ما يشير الربيع انطلق
ولكن أرى دون تجديده شقاء الأسى وسيول العرق
تعرّف الياس في سان باولو بالشّاعر القروي وكان يُسمعه شعره فيقول له: “إنّ أحسن ما في شعرك أنّك تُنظّمه ولا تعرف أن تقرأه…” ، ذلك لأنّه كان يجهل أبسط قواعد الإعراب.
اشترك الشّاعر مع توفيق ضعون على إصدار مجلة “الجريد” ولم يطِل عمر هذه الشّراكة.
في أواخر الحرب العالمية الأولى، ابتدأ الجهاد ضدّ الإستعمار الفرنسي والإنكليزي، وأخذ النّزاع يتفاقم بين أماني السّوريين ومطامع الإستعماريين. وكانت صحافة الجالية كلّها تقريباً إلى جانب فرنسا ومع الصِّحافة معظم المهاجرين. وكانت العِزّة الوطنية تظهر في جريدتين اثنتين في كل البرازيل، وهما “الزهراوي” -لجورج أطلس، و”المقرعة” وهي لأوّل شهداء الوطنيّة في المهجر، سليم اللّبكي. وانضمّ الشّاعر فرحات والأستاذ توفيق ضعون لتحريرها، وأصبحت جريدة “الأحرار”. كانت الصِّحافة العربية الأخرى تشيد بفضل فرنسا على السّوريين وعلى العرب وعلى الدّنيا كلّها؛ وكان على هذه الجريدة أن تحاربها حرباً لا هوّادة فيها، داحضين حججها ومُظهرين فسادها ومُبطلين مزاعمتها. ولم يرق لأخصامهم أن تكون نزعة الجريدة وطنية، فكانت مؤامرة دُبِّرَت لإغتيال صاحب الجريدة المرحوم سليم اللبكي، إذ إغتاله المدعو الياس مسرّة غدراً بالرّصاص. وكان مأتم الشّهيد على جانبٍ عظيمٍ من الأهميّة، وقد أبّنه الشاعر فرحات، فقال: “إنّ الشاعر لم يعُد يستطيع البقاء في سان باولو بعد أن أُنذِرَ بالقتل، وهي المدينة التي شقي فيها وتعذّب ونام اللّيالي من دون عشاء. ومع هذا، فقد كان يريد أن يبقى فيها قريباً من أصدقائه الأدباء. سافر إلى ولاية ماطو غروسو كمتجوّلٍ تجاريٍ لمحلّ السّيدين سليم وابراهيم طعمة.
ولما اندلعت نيران الثّورة في سوريا، كان ينظم قصائده الوطنيّة وينشرها في جريدة “الأفكار”؛ ونقلتها جريدة “القِبْلَة” التي كانت تصدر في مكّة مع تقريظٍ لها بقلم المغفور له الملك حسين. وأرسله المرحوم الملك فيصل، إثر نظمه قصيدةٍ بدخول الجيش العربي، إلى دمشق.
وهو يعتز بعروبته فيقول:
إنّـا وإن تكن الشآم ديارنا فقلوبنا للعُـرْب بالإجْمَـال
نهوى العراق ورافديه وما على أرض الجزيرة من حصى ورمال
وإذا ذكرت لنا الكنانة خلتنا نروى بسائغ نيلها السلسال
تزوّج سنة 1920 من ابنة مغتربٍ لبنانيٍّ، وأقاما في مدينة كوبروتيبا، وهنا بدأ بنظم الرّباعيات. وفي سنة 1925، طبع ديوانه بإسم “رباعيّات فرحات”. وفي سنة 1932، تألّفت لجنة من أدباء سان باولو لطبع “ديوان فرحات” وكان يريد طبعه في جزأين، فأبت عليه اللّجنة ذلك. وصدر في عام 1951 ديوانه “أحلام الرّاعي” عن دار “مجلّة الشّرق” بالبرازيل التي وزّعته هديةً على مشتركيها.
وقد تزوج إلياس فرحات عام 1921، وبعد عشرين عاماً من المشقة صلحت أحواله بعد كل هذا الشقاء والجوع والعرى والحرمان. وفي عام 1959 زار مصر بعد الوحدة بين مصر وسوريا، وتغنى بالعروبة والوحدة. وقال متأثراً: ” ما فارقت هذه البلاد قط، فقد حملتها معي إلى المهجر”. وقد قال في مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
غمر الأرض بأنوار النبوة كوكب لم تدرك الشمس علوه
بينما الكون ظلام دامس فتحت في مكة للنور كوة
ثم ظل إلياس فرحات يتغنى بالحب والحرية والعروبة والتسامح حتى رحل عن الحياة في عام 1976 في مهجره بالبرازيل.
* * *
زمن عجيب
ما كان في ماضي الزمان محرما للناس في هذا الزمان مباح
صاغوا نعـوت فضائل لعيـوبهـم فتعـذر التمييز والاصلاح
فالفتك فن والخداع سيـاسـة وغنى اللصوص براعة ونجاح
والعري ظرف والفسـاد تمـدن والكذب فن والرياء صلاح
النـفـــــاق
أسلافنا كانوا اذا مـات امـرؤ يستأجرون لنــدبه نسوانا
يدنين للميـت العزيـز فضيـلة صدقا وألف فضيـلة بهتـانا
أما الذين عرفتهم في عصرنا ممن يريدون العــلو مكـانا
يستأجرون ليمدحوا أمواتهم صحفا أحط من النوادب شانا
الرجال سبب تبرج النساء
لمت الفتاة على تبرجها فما استنت الا سنة خــرقاء
هي منك كالظل الوقيت فانت ان تكن اعوجا طبعا تكن عوجاء
ما ذنبها وهي التي تجد الذي ترضى ميولك فيه والاهــواء
أظهرت ميلا للجمال ولم تكن بجميلة فتجملت ارضــــاء
القناعة كنز لايفنى
ما للانام يفتشون عن السنا والشمس تغمر أجبلا وسهولا
تخذوا لمنشدهم سبيلا مظلما ومضوا فضلوا منشدا وسبيلا
طاروا صعودا للفضاء تفننا خاضوا به البحر الخضم نزولا
وتعلموا كل الفنون ولم يزل فن القناعة عندهم مجهولا
وله أيضاً من الرباعيات:
حولي من الناس أموات وما برحوا يمشون كالناس من دار الى دار
أبكي عليهم بأشعاري فتضحكهم مع ما تثير من الأشجان اشعاري
قوم يبيعون للشارين عزّتهم والعرض والدين والدنيا بدينار
لا يفرقون اذا أثروا أكلّهم تاج من الغار أم تاج من العار
***
ما حيلتي بكبار في نفوسهم ذلٌ الصغار وفي أخلاقهم عوج
راقبتهم ودروب الفي مظلمة فما رأت مقلتي من أيها خرجوا
يجرون ركضاً وراء السيئات وان يُدعوا الى عمل مستحسن عرجوا
ما بشّرت بهم الدايات أهلهم والفضل في أرمات ليس تنفرج
***