رادار نيوز – لا يختلف اثنان على فخامة الرئيس الراحل فؤاد شهاب (أو الأب فؤاد شهاب كما أحبّ مناداته)، بل الجميع يتفق على شخصه وعلى دوره في بناء الجيش اللبناني والدولة برمّتها (بعيدًا عن الأسباب الخارجية التي أدّت الى انتخابه). كما أنّ الجميع يرجع بالذاكرة أو بالدليل الى لبنان الجميل،الحقيقيّ والذي يريدونه، الى الحقبة التي حكم فيها الأمير فؤاد شهاب كهداية لرجالات الدولة في تأمين استدامة القطاع العام للأجيال. (وهنا بالرغم من “هريان” القطاع العام فإنّ أغلب الإدارات العامّة والمؤسسات العامّة القائمة اليوم هي من “صنع” الحقبة الشهابية).
من دون الدخول في المقارنة بين اليوم وتلك الحقبة أو حتى الدخول في المقارنة بين شخص الرئيس فؤاد شهاب وبين الرؤساء السابقين واللاحقين له، لابدّ من التوقف عند الفكرة التي انطلق منها الرئيس فؤاد شهاب نفسه، ليس طلبًا لشعبية (وهو الذي أراد أن لا يذكره أحد عند حرقه لمذكّراته قبل أشهر من وفاته من شدّة غضبه على ما آلت إليه الأمور) وإنّما لمعرفته بقيمة لبنان بين دول الجوار ودول الخليج الناشئة في تلك الفترة، وأيضًا لسبب تنامي الاضطراب الاجتماعي وتزايد حدّة الطائفية ولجوء اللبنانيين الى الحماية الفردية في ظلّ عجز تام للدولة (عام١٩٥٨ بالرغم من أنّ أزمة اليوم تضاهي أزمة تلك الحقبة والأزمات اللاحقة).
كان الرئيس فؤاد شهاب يطرح عدّة إشكاليات (نقلًا عن الباحث منير بدوي):
١- لماذا يكون اللبناني مستخدمًا صالحًا في مؤسسة خاصة فإذا صار موظفًا فسد ؟
٢- لماذا يعتبر اللبناني مخالفة القانون انتصارًا والتقيّد بالنظام مذلّة ؟
٣- لماذا يتفوّق الفرد في لبنان وتتخلّف الجماعة ؟
٤- لماذا لا يميّز اللبنانيون بين “الحربقة” والسياسة ؟
٥- لماذا ترك اللبنانيون الدين واعتنقوا الطائفية والمذهبية ؟
فالرئيس لم يلقِ اللوم أو المسؤوليّة مباشرة على المواطن، بل انطلق أساسًا من فكرة تأمين الحقوق ليصار الى تأدية الموجبات، انطلاقًا من حسّ وطنيّ، في سبيل تكريس ثقة المواطن بالدولة بقوله “لنزوّدهم أولًا بدولة مؤسسات وخدمات يتساوى فيها الجميع، وسوف يشدّهم ذلك تدريجيًّا للشعور بالانتماء لهويّة وطنيّة وحيدة”(١).
ولعلّ الانطلاقة الأولى في معركة التحديث السياسي للرئيس فؤاد شهاب، بعيدًا عن قيادة الجيش، كمنت في خطاب القسم -وللمفارقة بالرغم من مرور أكثر من ستّين عامًا على كتابته يصلح لأن يكون خطّة عمل لأيّ مسؤول في لبنان – ولهذا لا بدّ من العودة إليه (اي خطاب القسم) لتحديد القواعد التي يجب اتباعها في سبيل تعزيز الثقة بالدولة وتكريس مفهوم المواطنة.
لقد رسم الرئيس فؤاد شهاب خارطة الطريق في خطاب القسم من أجل الوصول الى “بناء وطن حرّ متقدّم، ومستقبل مستقرّ مجيد، إنّما هو التمسّك بالوحدة الوطنية”. ويقول الكاتب أنطوان سعد(٢) “رسم أمامي الأستاذ فؤاد بطرس صورة رائعة عن الرئيس فؤاد شهاب ورؤيته بعيدة المدى تميّزت بالحرص على العدالة الاجتماعيّة لجميع اللبنانيين، وضرورة تحقيق مشاركة فعليّة في القرار السياسي لجميع المكوّنات اللبنانيّة … ونوع من توازن دقيق بين طمأنة المجموعات الطائفيّة لوجودها ودورها من جهة، وبين الحفاظ على هيبة الدولة وحياديتها واستقلاليّة إدارتها من جهة ثانية”.
إضافة الى ذلك، تناول الرئيس فؤاد شهاب، في خطاب القسم، هذه المسائل انطّلاقًا عامل الثقة بالدولة. هذه الثقة المنبثقة عن “الجدّ في المسؤولية عن الواجب والحساب، والجدّ في جعل الدولة للمواطن وللكلّ على السواء، والجدّ في النظرة الى الغد والتصميم له”. وقد مارسها الأب فؤاد شهاب عبر “مبادئ الشهابيّة” (الاستقلال والسيادة/ الوحدة الوطنية/ الشرعية الدستورية/ التوازن السياسي والاجتماعي- الاقتصادي/ دور لبنان العربي وسياسته الخارجيّة)(٣).
لكن في المقابل، وفي خطاب القسم، إذا كان “على الدولة أن تتجاوز مهمة تأمين العدل والمساواة النظام الى تعزيز الفضيلة ورعاية التقدّم والعمل على ازدهار العلم وتوفير أسباب النمو الاقتصادي …” فإنّ الرئيس فؤاد شهاب ألحقها بوجوب “كل مواطن أن يقطع على نفسه العهد بأن يفي بمسؤوليته ويقوم بكامل واجبه. فالنهوض بالدولة يحتاج الى معاونة المواطنين جميعًا، والى حسّ الفرد بالانتماء الى المجموع والى تفهّم الحدود بين حقّ الذات وحقّ الآخرين، والتمييز بين الحرية والفوضى، والى التحلّي بروح النظام والخضوع الاختياري للقانون”.
إذن، واليوم وبعد ثلاثة وستين عامًا على هذا الخطاب، وبعد خلود هذه الحقبة و”طيّها” بلا رجعة – وبالرغم من أنّ الأب فؤاد شهاب نفسه قال عام ١٩٧٠ بأنّه “تعب من أكلة الجبنة ومن المتطرفين. الوضع في لبنان يتطلّب إصلاحات سريعة. السلطة المباشرة هي التي تناسب هكذا تنظيم لكن لا يمكن أن تكون مقبولة في لبنان … فذلك يقود الى ديكتاتورية حقيقية. كان بإمكاني أن أقوم به لكن ذلك يشكّل نقيض الديمقراطية وهي قاعدة الحياة السياسيّة في لبنان”(٤)- ونظرًا الى ما وصلنا إليه مرورًا بمراحل مفصليّة أنهت أزمة وولّدت أخرى،تطرح عدّة أسئلة لعلّها لا أجوبة لها:
– هل أنّ لبنان مقدّر له أن يبقى مأزومًا أم أنّ “المنطق” اللبناني مولّد للأزمات؟
– هل أنّ الزمن في لبنان لا يتغيّر بل يعيد نفسه بمهزلة؟!
– هل أنّ الشعب اللبناني لم يكفه مئة عام على لبنان الكبير و سبع سبعون عامًا على الإستقلال ليتكيّف ضمن منظومة إجتماعية متماسكة؟
– هل أنّ الفساد السياسي والإداري .. منطق لبنانيّ، والشهابية هي استثناء أو دخيلة عليها؟
– هل من بديل عن النهج الشهابيّ في بناء الوطن والمواطن؟
– هل ١٧ تشرين الثاني ٢٠١٩ بداية الثورة التي تحدّث عنها الأب فؤاد شهاب بقوله “لا أرى سوى وسيلتين لإنهاض لبنان: الديكتاتورية أو الثورة الشعبية … وأتوقّع انفجار الثورة خلال جيل أو جيلين لكي تحرّر لبنان من دواهيه”(٥).
– وهل عقليات اللبنانيين تحوّلت على مستوى “ثورة ديمقراطية” حقّة (كما أشار الرئيس فؤاد شهاب)؟
شكوك كثيرة تعزّز هذه التساؤلات، خاصّة بعد الاضطلاع على كتاب الرئيس إيلي فرزلي “أجمل التاريخ كان غدًا”، لكن من المؤكّد أنّ المرحلة الشهابية تبقى الاستثناء الجميل الذي يسعى إليه “لبنانيّ”، في سبيل تحقيق طموح هذا الوطن “المنطوي على كنوز وفيرة من كوامن القوى الخلاقة، ومكانات الإبداع، الى غد لا يكون فيه لبنان شُغل العالم بسبب أزمة سياسية تهدّد سلم منطقته أو سلم العالم، بل الى غد مجيد يكون فيه لبنان محطّ أنظار الدنيا بفعل دور حضاريّ ألمعيّ شعاعه العلم العظيم ونوره الروح الكبير”(٦).
المراجع:
١- عبد الفتاح خطاب، “جئني بمثلهم (٦): الرئيس فؤاد شهاب”، جريدة اللواء ٢٧\١١\٢٠١٩.
٢- انطوان سعد، مسؤولية فؤاد شهاب عن اتفاق القاهرة، دار سائر المشرق، ص ١٦.
٣- هذه المبادئ عالجها الكاتب مروان حرب في كتابه “الشهابية حدود التحديث السياسي في لبنان”، دار سائر المشرق، من ص ٦٢ وحتى ص٧٠.
٤- مروان حرب، مرجع سابق، ص ١٢٧.
٥- بذات المعنى، مروان حرب، مرجع سابق ص ١٣٥.
٦- من خطاب القسم.
