رادار نيوز – عندما تسمع قصة “الطاسة ضايعة” يذهب فكرك لأمور عدّة، تبعاً للقارىء وما حصل معه من أحداث، أو ما سمِع من روايات، فيتذكّر أحدهم يلاحِق معاملة إدارية له في أحد مراكز الدولة التي تُعنى بالشأن العام لإنجازها، فهذا يُرسله إلى الغرفة التالية، ومنها إلى المجاورة، وبعدها إلى المكتب الأخير في نهاية الممرّ، وبعد انتظار يُطلب منه العودة إلى الطابق الأول، وآخر للمراجعة بعد أسبوع، وفي كل مرة ينتظر من الوقت ما يكفي حتى إنهاء الموظف من تناول فطوره أو لإنهاء حديثه الطويل على الهاتف، أو حتى لشرب قهوته التي لا غنى عنها في المكاتب، ليصبح المُراجِع من مرضى القلب أو السكّري، أو الأعصاب، هذا إذا كان العمل منظَّماً، والموظّفون من المخلصين الجادّين والمهتمّين الذين يعملون للصالح العام من دون مواربة أو مخادعة، أما إذا كانوا من الفاسدين فحدّث ولا حرج مما يحصل من تقاذف لصاحب المعاملة من مكان إلى مكان.
يسمع الكثير منا قصة “الطاسة ضايعة”، والقليل يعرف أصل هذه الحكاية بالرغم من تعدّد واختلاف رُواتها؛ ففي عهد الأمير بشير الثاني الشهابي، أحد أمراء جبل لبنان، قام هذا الحاكم بتوحيد المكاييل، ووضع نظام الصاع، أي (الطاسة) (هو إناء يوضع فيه الماء أو اللبن ويسمّى أيضاً بـ “الطاس”)، لتسهيل مراقبة التجّار وعدم غشهم، كمرجع متّفق عليه، عند وقوع أي خلاف بين التاجر والمستهلك، تكون ذات حجم ومقاس محدّد، وعلى جميع الباعة والتجّار الالتزام به عند البيع والشراء، فتم إيداع (الطاسة) في مقرّ الإمارة. وبعد فترة من الزمن، نشب خلاف على مكيال القمح بين عدد من التجّار والمواطنين، فقرروا الاحتكام إلى الطاسة المحفوظة في مبنى الإمارة، لكنهم لم يجدوها، فقال الناس: (ضاعت الطاسة)، دلالة على انعدام المقاييس وضياع المعايير!
الواقع، يُعيد إنتاج نفسه بشكل دائم في كل مكان وزمان، فتضيع المعايير والمقاييس الحقيقية عند كل اختلاف في أمر معيّن، فتضيع بالتالي حقوق الناس، ويختلط الحابل بالنابل.
الطاسة ضائعة! تعني أنَّ مسار الأمور غير طبيعي، والسبب هو الفساد والجهل والرشوة والتهرّب من الواجب والمتاهة والمحسوبيات وعدم المراقبة وغياب المحاسبة والحيرة، كل ذلك وأكثر.
الطاسة ضائعة! تعني الضياع والإحباط والتسيّب والإهمال في حالنا وأحوالنا، والتلهّي بالقيل والقال حتى ضياع الإنسان والمال.
وفي السياسة تضيع الطاسة، عندما يقلّ العقلاء، يتنازع الحكّام والمسؤولون حول الزعامات، وتتعدّد الأحزاب والتيارات والجمعيات واللجان والمنتديات والمؤتمرات، وتكثر فيها التصريحات والنقاشات والتحليلات والخلافات والمطالبات.
تضيع الطاسة، عندما تعمّ الفوضى، وتكثر المخالفات ويصعب تحديد المسؤوليات لوجود المحسوبيّات، ونجهل بأي إتجاه نسير.
حال الكثير من الناس في لبنان يُردّدون ويقولون أنَّ “الطاسة ضائعة”، يتواصلون بمختلف أنواع التواصل الاجتماعي، ويتسمَّرون أمام التلفاز، تارةً لسماع المحللّين وتارةً لمشاهدة الثوار والثائرين، ومطالب من هنا ومتطلبّات من هناك، وتخّبط وضياع في اتخّاذ القرارات، وتقارير وتحقيقات، واتهامات علنية بالفساد من دون تسميات، وتشكيل لجان للبحث بغلاء الأسعار وارتفاع الدولار، وانقطاع المحروقات، وإضراب أصحاب الأفران، والتهديد والضغوطات من قبل التجّار، واقفال الطرقات والاعتصامات، ومرض الكورونا المستجدّ، حيث لا متاجر مفتوحة، أو مقاهي أو مدارس ولا جامعات، وما زاد الطين بَلَّة وفي زمن عدم الاستقرار، تُرِكَت كلّ الأمور الحياتية والمطالب الشعبية للحديث من قبل البعض عن نزع السلاح الذي يواجه العدو الإسرائيلي ورفع شعارت ليس فيها إلاَّ لخلق الفتنة والاحتقان والكراهية والضغينة.
فالواقع مؤلمٌ لغياب العقل والتعقّل، والناس في تسيّب وفوضى وإهمال، في كثيرٍ من المنعطفات والمطبّات والتحويلات، تجعلهم يعيشون في دوامة الأهواء والمزاجية. فهل تبقى الطاسة ضائعة والربّ راعيها، أو أنَّ طاساً جديداً جاهزاً للاستبدال قد تكون بمعايير ومقاييس مختلفة قاسية؟