أمين معلوف
إختلال العالم
بعد العديد من المؤلفات التي أغنى بها المؤلف أمين معلوف المكتبة اللبنانية والعربية، والعالمية. منها: ليون الإفريقي، سمرقند، صخرة طانيوس نال عليها جائزة غونكور1993، وبدايات … يندرج هذا الكتاب الجديد في سياق كتابه السابق الهويات القاتلة المنشور سنة 1998 والذي أصبح اليوم مادة تدريسية في برنامج العديد من الجامعات في العالم. وكتاب اختلال العالم الجديد صدرعن دار الفارابي – بيروت. يستعرض فيه دخولنا القرن الجديد بلا بوصلة وحصول أحداث مقلقة منذ الشِهر الأول والظن بأن العالم يعاني اختلالاً كبيراً، وفي عدة ميادين معاً اختلالاً مالياً، مناخياً، جيوسياسياً، أخلاقياً.
يرى فيه ان بين الحين والآخر تحولات غير مأمولة؛ ووصول البشر إلى مأزق، لا بد لهم من أن يكتشفوا وسائل الخروج منه. وأنه ليس هنا بصدد حالات الجزع اللاعقلانية التي رافقت الإنتقال من الفية الى أخرى، ولا بصدد الويل المتكررة التي يطلقها دوماً اولئك الذين يخشون التغيير أو يفزعون من وتيرته. إن مصدر قلقه هو من نوع آخر؛ قلق نصير للأنوار، يراها تترنح، وتشحب، وفي بعض البلدان، تشرف على الإنطفاء؛ قلق مولع بالحرية، التي كان يحسبها سائرة إلى الإنتشار في كل أنحاء المعمورة وهو الآن يشهد ارتسام ملامح عالم لا مكان لها فيه؛ إنه قلق نصير للتنوع المتناسق يجد نفسه مكرهاً على أن يشهد، عاجزاً، صعود التعصب، العنف، واليأس؛ إنه، قلق عاشق للحياة، لا يقبل التسليم بالفناء الذي يتربص بها.
يصرالمؤلف على القول إنه ليس من الناقمين على الزمن الحاضر؛ بل هو مفتون بما يأتيه به هذا العصر، مترصد لآخر مخترعاته، التي يسارع الى إدراجها في حياته اليومية؛ وهو مدرك لإنتسابه، إلى جيل محظوظ جداً بالنسبة الى الأجيال التي سبقته.
مخاوف لها مبرراتها؛ أمر سيعمل على تبيانه في صفحات كتابه هذا، بحسب ما يقول. لأنه يريد إيصال صرخة الإنذار إلى الإسماع، وإيجاد الكلمات الصائبة لإقناع معاصريه، بأن المركب الذي نحن على متنه بات بعد الآن بلا طريق، ولا مقصد، ولا بوصلة، في بحر هائج، وأنه لا بد من صحوة، ومن حالة طوارىء تفادياً للغرق.
يعود ويقول أيضاً بأنه لا توجد حتى اليوم سوى مؤشرات قليلة تسمح بالأمل بأن يحسن البشر التغلب على تبايناتهم واستنباط حلول يسيرة التصور، ثم أن يتحدوا ويعبئوا جهودهم لوضعها التنفيذ، هناك علامات كثيرة تحمل على الظن بأن اختلال العالم وصل إلى طور متقدم وبأن الحؤول دون التقهقرسيكون أمراً عسيراً.
يعرض الكاتب، عن الصفحات التي تلي، سيكون مسعاه أقرب إلى ناطور ليلي لبستان غداة مرور عاصفة، وفيما تنذر بالهبوب عاصفة أخرى أشد عنفاً. إنه ليس عالم نبات، ولا مهندساً زراعياً، ولا رساماً لمناظر الطبيعة، ولا يملك شيئاً في هذا البستان. إلا إنه يقيم، مع الأشخاص العزاء عليه، وكل ما يمكن أن يمس هذه الأرض يمسه عن كسب.
يقول بحروفه المشتعلة ضياء وسناء، عندما سقط جدار برلين اجتاحت العالم موجة من الأمل. فإنتهاء المجابهة بين الغرب والإتحاد السوفياتي أبعد خطر حصول زلزال نووي كان معلقاً فوق رؤوس الناس منذ نحو أربعين سنة، وكان ينتظر بعد ذلك أن تنتشرالديمقراطية شيئاً فشيئاً، وأن يتطور تداول الناس والسلع والصور والأفكار دون عوائق، يعاود ويقول أنه كانوا يزدادوا ضياعاً كلما ازدادوا تقدماً.
فبعد أن صرعت الولايات المتحدة عدوها الرئيسي، وجدت نفسها تخوض غمار مشروع هائل ينهكها وهو أن تروض بمفردها، كوكباً يستحيل ترويضه. وحتى الصين، التي تصعد بصورة مسرحية، لديها أسبابها للقلق؛ وإن جميع شعوب الأرض في مهب العاصفة بشكل أو بآخر. أغنياء أو فقراء، محتلين أو تحت الإحتلال، على متن زورق سائرين الى الغرق، وان تفقد أوروبا معالم الطريق من جراء انتصارها، فهذه ليست أول مفارقة في عصرنا. وقد يكون بالطريقة ذاتها إن انتصار الغرب الإستراتيجي، الذي كان من شأنه أن يعزز تفوقه، قد عجل في إنحداره؛ وإن انتصار الرأسمالية قد عجل في زجها في أسوأ أزمة عرفها تاريخها؛ وان توازن الرعب قد خلق عالماً مهجوساً بالإرهاب؛ وإن هزيمة نظام سوفياتي اشتهر بالقمع ومعاداة الديمقراطية قد أدى إلى تراجع النقاش الديمقراطي في العالم كله.
يشرح المؤلف النقلة بعد انتهاء المجابهة بين الكتلتين، من عالم إيديولوجي إلى عالم هووي وبعدها كل ينادي بإنتماءاته في وجه الآخر. كانت الأرض كلها أشبه بمدرج رحب طالما كانت المجابهة الإيديولوجية قائمة بين أنصار الماركسية وخصومها. وكانت تدور مناقشات حول محاسن ومساوىء هذا النموذج الإقتصادي أو ذاك، وهذا الفكر الفلسفي أو ذاك، وهذا التنظيم الإجتماعي أو ذاك. وبعد هزيمة الشيوعية، بعد أن توقفت عن عرض بديل ذي صدقية، أمست هذه المبادلات بلا موضوع.فالإفلاس السياسي كما يقول المؤلف والمعنوي الذي أصاب ماركسية متمسكة بالإلحادقد أعاد الإعتبار إلى المعتقدات والتضامنات التي أرادت تلك الماركسية استئصالها.
فمنذ سقوط جدار برلين، في عالم استشرت فيه الإنتماءات، ومن بينها تلك المتعلقة بالدين، بحيث التعايش بين مختلف الجماعات البشرية بات يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، وحيث أمست الديمقراطية تحت رحمة المزايدات الهووية. كان لهذا الإنزلاق من الإيديولوجية نحو فكر الهوية عواقب مدمرة على الكرة بمجملها، لكن هذا الدمار لم يبلغ في أي مكان القدر الذي بلغه في المحيط الثقافي العربي الإسلامي، حيث اكتسبت الأصولية الدينية، التي ظلت أقلوية مضطهدة زماناً طويلاً، أعلوية فكرية جماهيرية داخل معظم المجتمعات، كما في الشتات؛ وراحت هذه الحركة تعتمد خلال صعودها نهجاً معادياً للغرب بعنف. بعد أن ابتدأ هذا التطور مع صعود آية الله الخميني سنة 1979، راح يتفاقم مع نهاية الحرب الباردة. كانت النخب الحداثية في العالم العربي الإسلامي تسعى عبثاً منذ أجيال إالى تربيع الدائرة، أي كيف يمكن التأورب دون خضوع لسيطرة الدول الأوربية التي كانت مسيطرة على بلدانها، وكانت تهيمن على مواردها؟ وكان كفاحها في سبيل الإستقلال يخاض ضد البريطانيين والفرنسيين والهولنديين، وكلما عمدت بلدانها إلى أخذ زمام السيطرة على قطاعات جوهرية في اقتصادها، اصطدمت بشركات النفط الغربية. وحينما برزت في شرق أوروبا كتلة قوية تدعو إلى تصنيع متسارع، وترفع شعار الصداقةبين الشعوب، وتتصدى للدول الإستعمارية، رأى كثيرون في ذلك حلاً لهذه المعضلة. في سياق الكفاح من أجل الإستقلال، كان مثل هذا التوجه يبدو معقولاً وواعداً. إلا أنه مع مرور الزمن لا بد أن نعاين أنه كان مشحوناًُ بالبلايا. فلم تحصل نخب العالم العربي الإسلامي لا على تطور، ولا على تحرر وطني، ولا على ديمقراطية، ولا على حداثة إجتماعية، بل حصلت على نسخة ستالينية قومية لا تحوز شيئاً مما جعل للنظام السوفياتي إشعاعه العالمي لا خطابه الأممي، ولا إسهامه الكثيف في دحر النازية خلال 1941- 1945 ولا قدرته على بناء قدرة عسكرية، بل نسخة لأسوأ عوراته، إنزلاقاته في كه الأجانب، عنفه البوليسي، إدارته الإقتصادية التي أثبتت عقمها، واحتكار الحكم لمصلحة حزب، أو فئة، أو زعيم.
يعرض المؤلف ما يجري في بداية هذا القرن ليس اضطراباً عادياً. ولعله بالنسبة إلى العالم الكروي، الذي ولد على أنقاض الحرب الباردة، ذاك الذي سيهز الضمائر والعقول لعهد سابق لتاريخ طويل، يسأل المؤلف هل سنعرف كيف نجعل كل هذه الشعوب، المختلفة من حيث الدين واللون واللغة والتاريخ، والتقاليد، والتي اضطرها التطور أن تتجاوز وتتدانى، قادرة على العيش معاً في سلام وانسجام؟ والجواب لا يزال حتى اليوم غير أكيد. مع العلم وفي الوقت ذاته شهد تحولات مفاجئة في رؤية الغير تكشف عن توجهات خفية في أفكار معاصرينا، كان انتخاب باراك أوباما المثل الأكثر سطوعاً ومشهدية عليها.
يعتبر المؤلف هنا ان هذا التعايش الكروي لن يغادرنا بعد الآن. وهوسيرافق طوال هذا القرن وفي القرون القادمة. وهو نسيج من شعوب مختلفة، كل واع لهويته، واع للنظرة التي تلقى عليه، واع للحقوق التي يجب عليه أن يكتسبها أو يصونها، موقناً بأنه في حاجة الى الآخرين وبأنه أيضاً في حاجة الى الإحتماء منهم. فمن جهة المؤلف باق في انتظار قلق، ويرى أيضاً أسباباًً وجيهة للأمل، وليست ذات طبيعة واحدة، إن أول هذه الأسباب هو كون التقدم العلمي يتواصل ويتسارع، رغم التوترات، والأزمات، والنزاعات، والهزات.
يقول المؤلف في الخاتمة تحت عنوان عهد سابق للتاريخ مفرط في الطول.
يشير فيها كيف أن الشعب يجد نفسه في القادة الذين يتبنون كفاحه، وهذا القول على الصعيد الكروي. ذكر أيضاً أن هناك خصوم للولايات المتحدة، ومنافسون، وحتى أعداء الداء يحاربونها بمزيد من الأصرارإذا رأوا العالم يتجمع حولها بصورة إرادية. إلا أن أكثرية الشعوب والقادة ستحكم عليها من خلال أفعالها. فإذا عرفت أن تتصرف على الساحة الدولية بدقة وإنصاف، والتزمت باستشارة الأمم الأخرى باحترام. وبدلاً من فرض مشيئتها عليها، وإذا تعهدت بأن تطبق على نفسها أولا ما تطلب تطبيقه على الآخرين، وإذا أقلعت بوضوح عن الممارسات المنافية للأخلاق التي كثيراً ما شابت تصرفاتها عبر العالم، وتصدرت التعبئة العالمية ضد الأزمة الإقتصادية، ارتفاع حرارة المناخ، الأوبئة والأمراض الواسعة الإنتشار، الفقر والظلم وجميع أنواع التمييز بين البشر؛ حينذاك سيكون دورها كقوة أولى مقبولاً ومرحباً به. وحتى استخدامها لقدرتها العسكرية.
فالعالم اليوم بحاجة الى اميركا أكثر من أي وقت مضى، لكن إلى اميركا متصالحة مع ذاتها، اميركا تمارس دورها الكروي في حدود احترامها للآخرين، واحترام قيمها. هي بإستقامة، وإنصاف، وشهامة، وكاد يقول المؤلف بأناقة، برشاقة. لقد ذكر في كتابه هذا بضعة عوامل تسمح بالإحتفاظ بالأمل. لكن المهمة المطلوب إداؤها، ولا يمكن أن يعهد بها إلى قائد واحد، مهما تحلى بصفاء الذهن وقوة الإقناع، ولا إلى أمة واحدة، مهما بلغت من القدرة، ولا قارة واحدة. ذلك أن المطلوب ليس فقط إقامة نمط جديد من الأداء الإقتصادي والمالي، ونظام جديد للعلاقات الدولية، ولا تصحيح بضعة اختلالات ظاهرة للعيان، ينبغي أن نخترع مفهوماً جديداً للعالم لا يكون مجرد ترجمة عصرية، لأفكارمسبقة قديمة. بل واجب الجميع، الذين يعيشون بداية هذا القرن الغريب المساهمة في مشروع الإنقاذ هذا، بحكمة، وصفاء ذهن، وبغضب بعض الأحيان غضب الأبرار المتوهج.
الكتاب: اختلال العالم
المؤلف: أمين معلوف
الناشر: دار الفارابي – بيروت