كان يوم من تلك الأيام التي تجتمع فيها العائلة اجتماعاتها العادية إلا انه لم يكن يومها بالاجتماع العادي على مائدة غداء أو عشاء حيث ينتهي الامر بمشاجرة أو كلام جارح، إلى ما هنالك ….
ما ميز هذا اليوم أنه اقتصر على الأب والأم، الإبنة محبوبة الأب الغالية وابنتين أخريين وطفل إحداهن وقد بلغ العامين من عمره قبل يومين من هذا اليوم. بالنسبة للأب المزعوم فوجود ابنته المدللة يكفيه ليعتبر أن عائلته كلها موجودة؛ والأخرى والتي ترافقها معظم الأوقات لا تشكلان إلا فائضا يحتفظ بهما للمصلحة الخاصة .
قال أن لهذا اليوم وهذا الإجتماع العائلي المميز نكهة خاصة؛ فالإبنة المدللة على وشك عقد خطوبتها والكل فرح لها وقد وجدت أخيرا ؛ أكرر وأخيرا من يعني ما يوحي لها به… وهو جاد في مسألة الخطوبة تلك. من هنا ارتئ الأب أنه حان الوقت ليلتئم شمل العائلة من جديد: ليس حفاظا على العائلة ولكن تلميعا لمظهر دلال الإجتماعي وقد اقترب موعد زيارة أهل العريس الجدي إلى بيت العروس.
جلس الأب يكلم والدة الصبي حين دخلت دلال باب المنزل تحمل قالبا من الحلوى ، تضعه على الطاولة وتدخل المطبخ . يا له من تصرف نبيل ، لقد اشترت دلال قالب حلوى للاحتفال بعيد مولد ابن اختها الذي كان قبل يومين من هذا اليوم , وحيث لم يكلف أحد من الأب أو الأخت (كما تدعي انها ) عناء ولو حتى الإتصال يوم عيد ميلاده …
مع وصول دلال، وصل مفتاح اللقاء العائلي المصغر إذ ناداها والدها ودعاها للجلوس مع الأخرى (والدة الصبي) لحل المسائل العالقة .ففعلت بعد التأفف؛ فقد كان عليها التحضر وهندمة جمالها لأن عريسها المستقبلي سيصل وقد دعاها للغداء. وهنا سؤال يطرح نفسه: “لم في ذلك اليوم بالتحديد أصر الأب على هذا اللقاء والاجتماع بدلال لحل المسائل العالقة..؟” على حد قوله يريد إصلاح الأمر، فلا يجوز أن تبقى ابنته والأخرى على خصام مع اقتراب خطوبة دلال جديا .
ولما بدأ الأب بالكلام قال: “أنا هنا واليوم أريد أن أصالحكما معا. لا أريدكما أن تبقيا متخاصمتين .!”
لم يكن من دلال إلا أن نفت تلك الخصومة مقاطعة: “من قال لك أننا متخاصمتين ؟ “
والأب الذي لطالما لم يكن من المستحسن مقاطعته كالعادة؛ يعتقد نفسه مسيطرا على الوضع كامل السيطرة، يجيب بصوت متعال واثق: “بلى، لقد طال الخصام وحان له أن ينتهي.”
وحين لم تستطع دلال مسك لسانها عن الاعتراض على كلام والدها وبطريقتها المعهودة في التوجه إليه وكأنها تملكه, هب الأخير كالمجنون يصب نار جهنمه عليهما حينما قاطعته الأخرى معطرضة على صراخه خاصة وأن ابنها في المنزل، معبرة أن لا قيمة لهذا اللقاء ولا ضرورة له، فالخيط الأخير هو ما يربطها بهم ورجته عدم قطعه. اهتاجت نيرانه أكثر وراح يصب حممها على والدة الصبي بالوقت الذي دخلت فيه دلال لتجهز نفسها لحين وصول خطيبها النهائي. لم يكن من الصغرى إلا أنها أرادت الرحيل والرحيل بعيدا؛ فالكل يلومها: إن فرحت دلال أمر جيد، ولكن إن آلت أمور دلال إلى ما لا تحمد عقباه تقع الملامة على الأخرى وإن اصطلحت أمور دلال، فلا دخل لأحد في ذلك ولا…
واليوم، وإذ أن مظهر دلال الاجتماعي متزعزع قليلا فالسبب هو الاخرى. ما كان من الأخيرة إلا أن نادت ابنها من الغرفة حيث كانت خالته تحاول إلهاءه وتشتيته عما يجري في الصالة. أمسكت بيده وأرادت الخروج من ذلك المكان حيث السجان لا أمان له؛ هو الذي وقف لها يقطع عليها الطريق وينفخ صدره بوجهها ويخرج عينيه من رأسه كرصاصتين مباشرتين إن أصابتا لا تخطئان. تماما كما أصابتا في ذلك الوقت: واحدة أصابت العقل وأخرى أصابت القلب وذلك الخيط الرفيع قد انقطع… وصوت الأب يهدد بالتنكر لها إن هي خرجت من بيته. أما بالنسبة لها فكيف لا تخرج وهو لم يكن يوما بيتا، ما كان إلا سجنا لروحها وقاتلا دون رحمة لإنسانيتها؟ كيف لا تخرج قبل أن يلتهمها حية؟
لم تعلق أهمية على طرده لها أو على نكرانه إياها ! فهو يوما لم يعترف بوجودها كائنا مستقلا. حتى أنه لم يسبق له أن رآها يوما أو عرفها.
خرجت من الباب تمسك يد ولدها. تبعها نحو الدرج. أراد مكالمتها وإعادتها إلى المنزل . هربت منه بنزول السلالم فهي لن تخاطر بالبقاء تحت متناول يده. هي الأدرى ما الذي قد يحصل لمن يبقى في مجال يده إلا أن دلال لحقتهما إلى الخارج تصرخ من أعلى الدرج للأخرى؛ تلومها وتؤنبها. تتهمها بإحداث بلبلة وإحراج لا بل قالت لها بالحرف الواحد: ” مش رح نخلص من جرصتك ؟ “
وكما في لحظة الموت، عادت للأخرى الذكريات، وآه منها ذكريات. ذكريات أليمة، أليمة، أليمة…
وما صحاها من ذكرياتها الأليمة، صفعة قدمها لها والدها على وجهها، هدية الوداع…
إكراما لدلال!