الطريق إلى العطر
نادية الغزي تطارد روائح المسك والعنبر والكافور تاريخاً وصناعة وكتابة
عماد جانبيه
نادية الغزي باحثة رصينة، عاشقة للكتابة بامتياز، تشد الانتباه، وتغيّر الاتجاه، تلويناتها المسك والعنبر والند والبان أودعتها كتاباً بعنوان “الطيب والعطر في الشرق”. تركت للقارئ أن يختار على هواه، وأتحفت المتلقي بحكاية العطر التي بدأت أو لم تبدأ بعد. انتاج جديد بغير لغة، بعيد عن التكلّف والتعالي، هو التصاق بالأرض حين تهتز أغصان الصنوبر وتطلق الجبال آهات عطورها كما ليبدأ الشعراء بالسرد… لا بد أن العبق الشذي، يمشي ويسافر مع القارئ وفي عباراتها المألوفة؛ فليتعطّر أهل الدنيا بعطور الشرق وليمزجوا عشرات الروائح في الكون.
بدأت قصة الإنسان مع العطر… عندما بدأ ساكن الأرض القديم يستخلص الزيوت العطرية، فيصنع بعض الخامات النباتية مثل خشب الأرز، وكان يضع الأخشاب بعد قطعها في قدور كبيرة يغلي فيها الماء، ثم يأتي بقطع من صوف جز الغنم، فيضعها على القدور، وعندما كان البخار المتصاعد يمر خلال الصوف، كان جزء كبير منه يتكاثف في حنية الأصواف! بعدها… كانت الأصواف المشبعة تؤخذ وتُعصر، للحصول على السوائل المقطرة التي تحتوي على المواد العطرية… إنها طريقة من عشرات الطرق، لكنها كانت بداية طريق الطيب والعطر. وهي الطريقة التي استخدمها السومريون والكلدانيون والعموريون والفنيقيون والآراميون وغيرهم. وفي مناطقنا الخالدة… مناطق الزيتون.. كان العطر يثبت بوساطة (زيت الزيتون) فهو أروع المثبتات العطرية ومثله (اللّبان – الكندر) ( الجاوي) (الميعة)، وهي مشهورة حتى يومنا هذا في حلب، وقد جاء ذكرها في موسوعة خير الدين الأسدي. ومن طرق صنع العطر، جعله مسحوقاً بعد التجفيف النباتي ويسمّى (ذرور الطيب) ومن الطرق مزج أنواع الطيوب والعطور بما يسمى (الغالية) وقوامها نصف سائل ولها انواع. أما مع نادية فلا يقتصر الأمر على الظاهر، بل تغوص في الباطن وتستقصي حقائق العلم، وتتوخى أنوار اليقين، فتلمع قطعها المكتوبة، وتستعمل أوصافاً مبتكرة وتعابير جديدة، كما تقدم للمتلقي معان مفاجئة.
المسك.. إفراز ذكوري
تشير الكاتبة في كتابها إلى المصدر الحيواني للطيب، وتقول: يفرز المسك أو الشلو عدد من الحيوانات أبرزها: غزال المسك، فأر المسك وهو يقتات على شجيرة البيش السامة، القندس، هر الزباد، وللزباديات أنواع عدة، وأهميته أن الذكر والأنثى لهما جيب عطر ينثقب عند احتكاكه بالعالم الخارجي فينفجر المسك. وهناك الزباد الأفريقي، والزباد الماليزي وجيبه ضخم يفرز كمية مهمة من المسك، والسنَّور المعروف ومسكه أقل ظهوراً من أمثاله، والعسبار وهو حيوان لاحم يشبه الضبع وهو من فصيلة الزباديات ويفرز المسك دفاعياً من غدده. وهناك الرباح ويدعى الزريقاء وهو نوع من الزباديات المفرزة للمسك، والروحاء او الرية وله جيب عطر طولاني وطويل الوبر. اما العنبر فيفرزه حوت العنبر أو الإيشالوت من بقايا جهازه المعوي.
يوجد المسك في جيب المنطقة الأربية الحالبية لظبي المسك، والذكر وحده هو الذي يفرز المسك. ويصب المسك المفروز، في هذا الجيب، بوساطة عدة غدد صغيرة، ومتى امتلأ الجيب بالمسك، احتك الظبي بالصخور ليتفجر من مجار دقيقة جداً ويكون آنذاك شبيهاً بالمرهم، يجف متى تعرّض للشمس ويسود. يفعل الظبي ذلك ليترك أثراً من رائحته، لتتجه اليه الأنثى أيام التزاوج ولقد اعتاد الصيادون أن يسدوا أنوفهم لدى الاقتراب من ذكر المسك لأن رائحته ترعف. لقد سمته العرب المشموم ووصف بالأزفر لشدة رائحته.
تبيّن الكاتبة كيف تنوعت أقوال المؤرخين في المسك وفي طريقة إفرازه… إلى أن توصل العلم الحديث إلى تفسير هذه الظاهرة الإعجازية. فقد ذكر ابن سينا المسك قائلاً: “أحسن المسك قادم من بلاد التيبت، وهو موجود في سرّة الحيوان الشبيه بالوعل، حيث للفم نابان طويلان مثل القرون”. أما موزاديوس فقال: “إن مسك التيبت له خاصية أفخم من مسك الصين لأن الحيوان في التيبت يأكل النادرين وغيره من الأعشاب المعطرة التي لا توجد هناك”. ويقول القزويني في “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات”: “يوجد المسك في سرّة ظبي تدعوه العرب غزال المسك، فبعد أن تتجمع المادة في سرته، يصيب الغزال إربة وحكة، فيفزع حينئذ إلى صخرة حادة يحتك بها ملتذاً، فيتفجر المسك ويسيل على ذاك الحجر ويكون انفجاره من السرة كانفجار الخراج، فيرتاح الظبي بعد التخلص منه! لذا كان من عادة تجار المسك أن يتبعوا مراعي الظباء في الجبال، يبحثون عن المسك المتجمد، من دم الغزال، وقد جفّ على الصخور، فيحملونه، ويدعونه في طوابع معدة لذلك، ثم يستخلصونه وهذا هو أصل المسك الذي يستعمله الملوك ويتهادونه”. والمسك بعامة يستعمل كعطر مثبت لغيره من العطور. وتشير المؤلفة الى أن العرب الذين هم اول من تاجر بالمسك، وقدّر قيمته الثمينة.. فأوصلوه إلى سائر الجزيرة العربية والى بلاد اوروبا. وذكر هيرودوت في تاريخه أنه: من جهة الجنوب، آخر المعمور، بلاد العرب وفيها وحدها يوجد البخور والمر والقرفة والراصيني واللادن… ومن هناك يصدر المسك.
العطر يماني
وتذكر العنبر والعطور النباتية، كما تذكر أيضاً طريق القوافل التي تحمل من الهند الطيب والعقاقير والأفاوية. اما عن سوق عكاظ فقد قيل في عكاظ غوالي المسك والطيب والعطور، فقد عرف العرب بولعهم بالتجارة وكان المعروف أن أهل حضرموت والشعر قبيلة مهرة واليمن هم تجار العرب. وروي عن عبدالله بن أبي ربيعة انه كان يبعث بعطر اليمن من اليمن الى امه أسماء بنت مخربة أم أبي جهل.. فكانت تبيعه الى الأعطية… وكانت تضع العطور في قوارير وتزنها فتبيع نقداً وديناً… فإذا باعت ديناً كتبت مقدار الدين في كتاب. ولعل شهرة مكة بعطورها كانت تأتيها من العطور الوافدة اليها من اليمن.
ومن القصص ايضاً تذكر أنه اشتهر اسم امرأة بعطرها حتى ضرب به المثل فقيل “عطر منشم” وهي امرأة عطارة في الجاهلية كانت تبيع الطيب، فكانوا إذا قصدوا حرباً غمسوا ايديهم في طيبها وتحالفوا على ان يستميتوا في الحرب ولا يولّوا أو يقتلوا.. فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس (دقّوا بينهم عطر منشم).
أما في الند والكافور والعود والعنبر فتقول: النّد مصنوع من العود المستقطر … ومن اللبان ومن العنبر . أما عن الكافور فتقول: هو ماء شجر في جزيرة الكافور. يحزّون الجذع بالحديد فإذا لامس السائل الهواء انعقد كالصمغ الجاف. اما العنبر: أجوده الأشهب ثم الأزرق ثم الأسود. والعود: ينسب إلى مندل وهي قرى الهند وأجوده المتدلي، وأجوده أصلبه. أما رائحته فتنطبع على الثوب أسبوعاً كاملاً.
وكتبت المؤلفة عن الفراعنة وبلاد العطور، والعطر يتكلم في الشام، ودهن البان وعطر الهندباء البرية، وعطور زهر النارنج والبرتقال، ثم ختمت في كتابها “الطيب والعطر في الشرق” بمسك الختام:
فليتعطّر أهل الدنيا بعطور الشرق وليمزجوا عشرات الروائح العابقة في الكون، وليتطيّب أهل الدنيا بالمسك والعنبر والمر والند والبان؛ فحكاية العطر لعلّها بدأت أو لم تبدأ بعد، ورشّات الشذى المنتشرة في آسية تتحدث كل صباح عن الألوان والغزلان والزهر.. لن تسكت قط. حين تهتز أغصان الصنوبر وتطلق الجبال آهات عطورها… ليبدأ الشعراء بالسرد وتنطلق الربابات تتسابق مع كل ناي لتغنّي ميجنا الطيب والعطر في الشرق.
الكتاب: الطيب والعطر في الشرق
المؤلف: نادية الغزي
الناشر: الدار العربية للعلوم – ناشرون